كما انه لا يمكن عزل اي حركة عن سياقها الذاتي فإنه لا يمكن عزلها عن السياق التاريخي.
ينطبق
هذا القول على حركة النهوض السني من حيث اهمية فهم السياق التاريخي وخاصة بما
يتعلق بالمنظومة المهيمنة والتي يشكل الحيّز السني جزءاً منها لانه مأخوذ
ببراثينها وبين انيابها.
يجدر
بالنخبة السنية اي قادة الرأي اطلاق ورش عمل على مستوى العمل الذاتي والفردي او
على مستوى عمل جماعي لمن يتسنى لهم العمل ضمن مجموعة من ذوي الاختصاص.
للعمل
على مقاربة السياق التاريخي الراهن وفهم مرتكزاته وآلياته خاصة بما يتعلق
بالمنظومة المهيمنة اليوم و التي هي الحضارة الغربية التي ترتكز الى مكونين اثنين
المكون المسيحي ومكون فلسفة عصر الانوار.
الحضارة
المهيمنة في هذا العصر هي حضارة هجينة جمعت اسوء ما يكون في الدين المسيحي وفلسفة
الانوار. تستمر هيمنة هذه الحضارة منذ اربعة قرون واتت على انقاض انهيار الحضارة
السنية التي امتدت لمدة ألف سنة.
هذه
الحضارة حملت قدرات تدميرية هائلة شملت كل شعوب الكرة الارضية وتجسدت في حدها
الاقصى في عمليات ابادة لشعوب باكملها بوحشية قل نظيرها في التاريخ وتجسدت في حدها
الادنى بنهب خيرات الشعوب وابادة نخبها وصناعة نخب مزيفة لها اي انهم قاموا بقلب
التراتبية الاجتماعية والسياسية في كل البلاد التي دخلوها فاذلوا كبرائها ورفعوا
الحثالات ليسلموها مقاليد الامور فانقطع بذلك استمرارية المنظومات القيمية مما خلق
لكل شعوب الارض فجوات بين شخصيتها الثقافية الحقيقة والشخصية المزيفة التي الزموها
بها مما يجعل عملية اعادة عمل الاليات الاجتماعية والثقافية والحضارية الخاصة بكل
شعب من الصعوبة بمكان لان الهيكلية المزيفة كانت عبارة عن آليات تدمير ذاتي
لمقومات هذه الشعوب.
وبذلك
وضعت كل شعوب الارض في داخل دائرة مغلقة تشدها الى الاسفل فالاسفل لان اي عملية
نهوض واعادة الامور الى نصابها كان ينتج عنه استهلاك ذاتي مدمر تجاوز لدى الكثير
من الشعوب النقطة الحرجة التي يمكنه معها
اعادة التاهيل الذاتي.
في
ظل الظرووف آلتي انشئتها الحضارة المهيمنة كان من الممكن ان تستمر سيطرتها الى
الابد لانها أنشأت نظاما عالميا يتكون من آلياتان متكاملتين : آلية ازدياد مفرط
لقوة الحضارة المهيمنة مقابل آليات تدمير ذاتي محكّم للشعوب المهيمَن عليها ولكن
آلية الهيمنة الغربية في انحسار لان الاجرام والتوغل بعيداً في نقض القيم
الانسانية فعل فعله داخل الفضاء الغربي ونقل اليه آليات التدمير الذاتي.
احد
اسباب انحسار الهيمنة الغربية عدا عن العوامل الذاتية هو قيام الحضارة الغربية
باكملها على الدجل وعلى ارتكاب الموبقات
الوحشية تحت غطاء من شعارات براقة انتهى بها المطاف لان تكون مفضوحة امام اعين
الشعوب الضحية والتي بدات تستعيد سيادتها على نفسها ولو بشكل بطيء ولكن ثابت
ومستمر. الخروج السياسي من تحت العباءة الغربية سيتبعه حتما الخروج الثقافي
والاجتماعي وبالتالي الحضاري.
مكونات
الحضارة المهيمنة :
-
المكون الاول هو المكون المسيحي
تمت
صناعة الدين المسيحي على مدى قرون وكانت صناعة الدين المسيحي تتم عبر المجامع
المسكونية.
حيث
تم عقد أول مجمع مسكوني في القدس بحضور
بولس وبعض تلاميذ المسيح وخاصة بطرس.
وكان
هدف هذا المجمع المسكوني دراسة وتقييم عملية انتشار الدين الجديد.
ورسم
العلاقة بين هذا الدين الجديد وبين شريعة موسى، لان دعاة المسيحية في ذلك الوقت
كانوا قد لاحظوا ان الواجبات المتأتية من شريعة موسى تقف عائقا امام تحول الناس
الى الدين الجديد ولتسهيل عملية الانتشار
قرر المجتمعون عدم الزام الراغبين الدخول في المسيحية من واجب الختان واحترام
قواعد الكوشير (الاكل الحلال حسب شريعة موسى).
لقد
بدأ واضحا خلال هذا المجمع المسكوني تأثير بولس الكبير على سائر الأمور و بولس هذا
هو ضابط روماني من أصل يهودي وكان مكلفاً باضطهاد المسيحيين ومنع انتشار تعاليم
المسيح ومن ثم تحوَل بحسب ادعائه لان يصبح الوريث الوحيد للمسيح بعد ان اعلن إن
المسيح ظهر له في طريقه إلى دمشق وعهد اليه تكميل الرسالة.
ومن
أهم ما قرره المجتمعون هو إبدال واجب الالتزام بالختان وبناموس موسى بالإيمان
بالمسيح فقط وقاموا باستحداث مفهوم السلام (سلام المسيح) أي أن مجرد الإيمان
بالمسيح يفتح باب الخلاص. يعني ان اهم ما انجزه مؤتمر القدس هو فك إرتباط المسيحية
مع شريعة موسى وهذا ما فتح الباب على مصراعيه لان تنمو المسيحية في كنف الثقافة
اليونانية الرومانية السائدة في ذلك الوقت وفق الاستنسابات الشخصية وتفويض كامل
لبولس نيابة عن المسيح. فحيثيات النقاشات بين المجتمعين لم تكن محاججات مرتكزة الى
تعاليم المسيح انما ترتكز الى مصلحة انتشار الدين وكيفية ملائمته ليوافق الهوى
العام للشعوب المطلوب ادخالها الى المسيحية.
بعد
المجمع المسكوني الاول في القدس توالت المجاميع المسكونية التي كانت تصنع وبشكل
تدريجي وفق الظروف التاريخية السائدة في زمن كل مجمع مسكوني العقيدة المسيحية
بعيداً عن اي اثر للوحي الذي اختص الله به
عيسى عليه السلام. و يعتبر مجمع نيقيا الاول اهم مجمع مسكوني حيث تم صياغة العقيدة
المسيحية كما نعرفها اليوم وقد تم عقد هذا المجمع بدعوة من الامبراطور الروماني
قسطنطين الذين اراد تجديد شباب الامبراطورية الرومانية وتكريس وحدتها عبر عقيدة
رسمية جامعة موحدة تم صياغتها من خلال المناقشات وتصويت الحاضرين تحت رعاية ورقابة
الامبراطور واعوانه. ومن اخطر قررات مؤتمر نيقيا اضافة الى صياغة العقيدة المسيحية
كان تشريعه لعملية الابادة البشعة التي تعرض لها الاريسيين وهم المسيحيين
الحقيقيين اتباع السيد عيسى نبي الله ورسوله عليه السلام وكل من يعارض العقيدة
الرسيمة للدولة التي اخذت بمبدأ التثليث والنظرية الفداء.
ان
متابعة نشات الدين المسيحي وحيثيات صناعته من خلال المجاميع المسكونية المتعددة
تجعل من السهل فهم طغيان البعد العقائدي والدوغماتي على البعد الروحي الغيبي.
- المكون الثاني هو المكون الفلسفي
يتشكل
المكون الثاني للحضارة المهيمنة من فلسفة ما يسمى بعصر الانوار في اوروبا. فلسفة
عصر الانوار تمثل مرحلة ارتكاس للبشرية نحو الظلامات و مرحلة تمرد العقل البشري
على ما يتجاوز محيط ادراكه. نقطة اطلاق فلسفة الانوار هي وضع العقل في مقابل الدين
وافتعال صراع وهمي بينهما. البداية كانت في الاندلس مع كتابات ابن رشد الذي انتقل
فكره الى اوروبا وتلقفه الاوروبيين وكأنه منتهى تطور ما وصل اليه الفكر الانساني
في الحضارة السنية. فقد كتب ابن رشد كتابا انتصر فيه للفلسفة اليونانية ضد الفكر
السني الذي عبر عنه الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة، فقد كتب الغزالي كتابه في
سياق عمله الهادف الى فضح الاختراقات الغريبة والهجينة في الفضاء السني كما فعل
سلفه الكريم ابو الحسن الاشعري، عبر تسمية الاشياء باسمائها وكشف الاغطية التي
كانت تتستر تحتها الفرَِق التي خرجت من اطار
اهل السنة والجماعة والتي كانت تدمر المجتمعات السنية من الداخل كما تفعل
اليوم حركات الاخوان المسلمين والسلفيين التي اعتمدت مناهج ومقدمات لا تقرها
المنظومة الدينية لاهل السنة والجماعة.
فكر
ابن رشد شكّل محطة سفلى في المنحنى الانحداري للحضارة السنية وتطرق الى اشكالية
تافهة وهي اشكالية العلاقة بين العقل والنقل اي بعبارة اوضح لاشكالية التعارض
المزعوم بين العقل والدين.
اشكالية
التعارض المزعوم بين العقل والنقل اي بين الدين والعلم لا تنتمي الى الفضاء الفكري
السني انما هي عوارض مرضية جانبية في الحضارة العربية السنية. وكان الاجدر بابن
رشد أن يتابع ما بدأه الغزالي في رفع سياج الحماية حول الحمى السنية عبر تعرية
الافكار الدخيلة وتفنيدها ومن ثم عزلها. لكنه بدلا عن ذلك قام بالتطاول على الغزالي
معلناً انتصاراً خرندعياً على اساس تعصب اعمى لارسطو وعلى اساس قراءة قاصرة لما
كتبه ابو حامد.
اعلان
ابن رشد تهافت كتاب الغزالي الذي انتصر للدين هو اعلان انتصار الفلسفة على الدين.
ان
ما حصل مع ابن رشد ودفعه قصر نظره وضيق افقه الى رفد الاوبئة الفكرية بدل محاربتها
واعتبار ان الافكار الخارجة والسطحية والتافهة تمثل الدين وهو الخطأ نفسه الذي
يكرره في عصرنا العشرات من المفكرين الخارجين من رحم الفضاء السني عندما يحاربون
الدين بحجة ما تقول به وتفعله الفرق الخارجة عن اهل السنة والجماعة من اخونجية
وسلفيين.
بالنسبة
لاوروبا التي كانت تشهد بوادر الصراع بين الاكليوروس الديني وجماعات التفكير الحر
والتي تمحورت في جزء منها حول العلاقة بين العلم والدين اتت كتابات ابن رشد لتدعم
التوجه اللاديني على اعتبار ان منتهى ما توصلت اليه الحضارة السنية والتي بنيت على
الدين هو تفوق الفلسفة على الدين باعتراف احد اكبر مفكريها في عصره.
العمل
التخريبي الذي قام به ابن رشد والذي كان له اسهامه في تكريس المنحنى الانحداري
للحضارة السنية يتابعه اليوم عدد كبير من المفكرين الخارجين من رحم المجتمعات
السنية حيث يعملون هدماً وتدميراً من داخل الجسم السني. وبشكل عام ينطلق كل هؤلاء
المفكرين من منطلقات خاطئة اوردتهم فيها الحركات
الاسلامية
التي تعاطت مع الدين كما تتعاطى مع النظريات الاجتماعية والفلسفية اي من خلال
قراءات نقدية تتميز بالسطحية لانها تلغي الجانب الروحي والغيبي للنصوص الدينية.
والغاء الجانب الغيبي من قبل جوقة المفكرين الخارجين والذين يتَسمون وبكل صفاقة
بالمفكرين الاسلاميين فانه وان كان نابعاً عن سوء نية من البعض لكن القسم الاكبر
منهم على جهل كبير بكيفية التعامل مع النصوص الدينية وبالتالي فانه يُحْسَنُ
افتراض حسن النية لدى غالبية هؤلاء المفكرين والذين هم في واقع الحال ضحايا تقصير
المفكرين من اهل السنة والجماعة في توضيح الامور كما ينبغي وبلغة العصر.