ولماذا انتشر مذهب الإمام مالك؟ وما علاقة هذا بتعذيبه وجلده؟
ذكرنا في المقال السابق كيف أن الوالي الهاشمي على المدينة قام بالتنكيل بمالك وتعذيبه لتفضيله عثمان على علي، وتعريضه بخلافة علي. لكن الداهية أبو جعفر المنصور بعد أن سحق ثورة مهدي العلويين (النفس الزكية) وجد أن من الضروري أن إبراز نجم فقيه يكره العلويين. فادعى أن ضرب مالك لم يكن بأمره!
قال المنصور للإمام مالك: «ضع للناس كتابا أحملهم عليه». فحاول مالك أن يعتذر عن المهمة، ولكن المنصور ألحّ: «ضعه فما أحد اليوم أعلم منك». فقال مالك: «إن الناس تفرقوا في البلاد فأفتى كل مِصرٍ (أي بلد) بما رأى: فلأهل المدينة قول، ولأهل العراق قول تعدوا فيه طورهم». فقال الخليفة المنصور: «أما أهل العراق فلا أقبل منهم صرفاً ولا عدلاً. فالعلم علم أهل المدينة». فقال مالك: «إن أهل العراق لا يرضون عِلْمَنَا». فقال المنصور: «يضرب عليه عامتهم بالسيف، وتقطع عليه ظهورهم بالسياط» (انظر ترتيب المدارك: 30). فصنّف مالك كتابه الشهير: «الموطَّأ». هذا والمعروف أن مالكاً قد وضع الموطأ، وما كان يفرغ منه حتى مات المنصور (ترتيب المدارك 1|192)، أي أنه ألفه في أواخر عهد المنصور.
والملاحظ أن جملة المنصور: «أما أهل العراق فلا أقبل منهم صرفاً ولا عدلاً» فيها إشارة إلى يأسه منهم لكونهم علويين عقيدة. ولأجل ذلك نرى المنصور يولي مالكاً عناية خاصة، ويطلب منه أن يكتب الموطأ، ويقول له في خبر آخر: «لنحمل الناس –إن شاء اللّه– على علمك وكتبك ونبثّها في الأمصار، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا سواها». وقال له (كما في تذكرة الحفاظ 1|290): «لئن بقيتُ، لأكتبنّ قولك كما تُكتب المصاحف، ولأبعثنّ به إلى الآفاق فأحملهم عليه».
ومما شجّع العباسيين على نشر مذهب مالك، أنه كان يرى مساواة علي لسائر الناس. فكان يقول بأن أفضل الأمّة هم أبو بكر وعمر وعثمان (رضي الله عنهم) ثم يقف ويقول: «ثم استوى الناس!» (انظر: ترتيب المدارك (1|45)، رواية أبي مصعب)، وفي رواية أخرى: «هنا وقف الناس. هؤلاء خيرة أصحاب رسول الله ﷺ. أمّر أبا بكر على الصلاة، واختار أبو بكر عمر، وجعلها عمر إلى ستة، واختاروا عثمان، فوقف الناس هنا». وزاد في رواية: «وليس من طلب الأمر كمن لم يطلبه».
كما أنه لم يرو عن أهل البيت مثل علي وابن عباس إلا النادر، روى الخطيب عن أبي بكر الزبيري، قال: قال الرشيد لمالك: لم نر في كتابك ذكراً لعلي وابن عباس، فقال: (لم يكونا ببلدي ولم ألق رجالهما). مع أنهما عاشا في المدينة غالب حياتهما. فعلي رضي الله عنه مدني أقام بالمدينة قرابة 36 سنة كان في أكثرها متفرغاً للعلم، بينما كل الذي أمضاه بالكوفة أقل من 4 سنين كان مشغولاً أشد الانشغال في تسيير الجيوش وإخماد الفتن وإدارة الدولة. وذرية علي سكنوا المدينة، وحديثه موجود عندهم لو أراد مالك روايته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما مالك، فإن علمه عن أهل المدينة، وأهل المدينة لا يكادون يأخذون بقول علي، بل أخذوا فقههم عن الفقهاء السبعة عن زيد، وعمر، وابن عمر، ونحوهم. فهذا موطأ مالك ليس فيه عنه ولا عن أحد أولاده إلا قليل جدا، وجمهور ما فيه عن غيرهم، فيه عن جعفر تسعة أحاديث، ولم يرو مالك عن أحد من ذريته إلا عن جعفر، وكذلك الأحاديث التي في الصحاح، والسنن، والمساند منها قليل عن ولده، وجمهور ما فيها عن غيرهم."
لكن المنصور هلك فور انتهاء مالك من كتابه. فجاء ولده المهدي من بعده ليكمل نفس الخطة. جاء في سير أعلام النبلاء (8|78): عن إبراهيم بن حماد الزهري، قال: سمعت مالكاً يقول: قال لي المهدي: «ضع يا أبا عبد الله كتاباً أحمِلُ الأُمّة عليه». فقلت: «يا أمير المؤمنين، أما هذا الصقع –وأشرتُ إلى المغرب– فقد كفيته. وأما الشام ففيهم من قد عَلِمت –يعني الأوزاعي–. وأما العراق فهم أهل العراق». يشير إلى تمكنه من فرض مذهبه في الحجاز وإفريقيا، وعجزه عن فرضه في الشام، لوجود إمامها الأوزاعي، وعجزه عن فرضه في العراق، لشدة كراهية العراقيين لمذهبه.
فهذا سبب انتشار مذهب الإمام مالك في الحجاز والمغرب. حيث نشره العباسيون بسبب موقفه من العلويين. وقد احتاجت إليه الدولة الأموية في الأندلس في ما بعد، عندما ظهر الأدارسة (من نسل الحسن) وشكلوا تهديداً لهم. ثم إن مالكاً سأل بعض الأندلسيين عن سيرة ملك الأندلس، فوصف له سيرته، فأعجبت مالكاً. فقال للأندلسي: «نسأل الله تعالى أن يُزيِّنَ حَرَمَنا بملِكِكُم». فبلغ هذا ملك الأندلس، فحمل الناس على مذهب الإمام مالك. هذا عدا موقفه من علي وذريته، وهو الموقف الذي قال عنه أبو زهرة: «إن ذلك الحكم يدل على نزعة أموية».
وكما ترون تسبب موقف الإمام مالك بأن انتشر مذهبه في إفريقيا وفي الأندلس والنتيجة أن هذه البلاد كانت أبعد بلاد الإسلام عن التشيع. بل حتى لما أراد أحد مؤرخيها (القاضي ابن عربي المالكي) كتابة مواقف الصحابة، كتب أبعد كتب التاريخ عن التشيع وهو كتب العواصم من القواصم. فرحمة الله على مالك!